عالم العلاج بـ«الدجل» المعالج المزيف يستغل جهل البسطاء ويوهمهم بقدرته على علاج الشلل و«عرق النساء»

عندما يختلط الشعور باليأس والإحباط لدى المرضى، تصبح أية طرق للعلاج، طاقة من الأمل حتى وإن كانت آمالاً كاذبة، يلجأ لها المريض لتحقيق شفاء لن يأتى، الأمر الذى يعرضه لمخاطر تضاعف من معاناته، ويصير ضحية للمرة الثانية، واقعاً تحت تأثير «دجالين» يدّعون علاجه بالوهم، الذى يتحول بين عشية وضحاها إلى أيقونة، وصاحب طريقة يحج إليه القاصى والدانى، ومن خلفه جيش من المريدين طوعاً وكرهاً، منهم عن اقتناع فصار يروج له، ومن تلقى مالاً فصار أجيراً عنده، لكلٍ من عمله نصيب.

مغامرة للوقوف على كواليس وممارسات هذا العالم المختبئ خلف عباءة «الطب».

كانت الساعة تشير إلى الثالثة عصراً عندما وصلت السيارة، إلى قرية القبابات فى آخر حدود الجيزة المتاخمة لمحافظة بنى سويف، ليرفع النقاب عن حقيقة الإعلان الذى رصد بالصدفة، لشخص فى العقد الرابع من عمره، يرتدى جلباباً، ويغلب على مظهره الطابع الريفى، ويدعى قدرته الخارقة على علاج الشلل، والجلطة وغيرها من الأمراض التى عجز عن علاجها الطب الحديث.
قررت «الوطن» خوض مغامرة للتعرف على حقيقته، عقب رؤية إعلان كبير له، معلق على جدران كوبرى الجيزة.
الطبيب المزعوم اسمه إمام سيد إمام، يدعى قدرته على علاج الشلل النصفى، وشلل الوجه، والغضروف، وعرق النسا والصداع، وآلام الروماتيزم، على الرغم من أن علاج هذه الأمراض يحتاج إلى طبيب متخصص، قضى سنوات فى الدراسة على حسب متخصصين.
بدأ تتبع المعالج الذى وضع صورة له على الإعلان، يبدو من خلالها بوجه تكسوه السمرة، ويتوسطه شارب كثيف، باتصال هاتفى بالرقم الموجود فى الإعلان، تساءل عن هوية المتصل، فكانت الإجابة أن ثمة شاباً أصيب بكسر فى الكتف، نتيجة حادث منذ عدة أشهر ويحتاج إلى مساعدته، بعد أن فشل الأطباء المتخصصون فى علاجه، رحب الرجل وحدد موعداً فى اليوم نفسه عقب صلاة الظهر، فى مسكنه بمنطقة «القبابات» فى الصف التابعة لحلوان.
وحتى لا يرتاب «المعالج»، وضع أحد كاتبى التحقيق «تعليقة» طبية على ذراعه، توحى بأن ثمة ألماً فى كتفه، ساعات، وبدت ملامح القرية تتضح، فى الطريق تدخل أحد الأهالى مستفسراً عما إذا كان الشيخ «إمام» هو الوجهة المقصودة، إيماءة بالرأس كانت تفى بالإجابة، تطوع الرجل فى الإثناء عليه قائلاً: «ده راجل معروف فى البلد، وياما ناس خفت على إيديه، وإن شاء الله الشفا هايكون عنده».
سائق «التوك توك»، لم يكتف بالسؤال عن الوجهة، لكنه سرد تاريخ الحاج إمام، وأخويه اللذين يؤيدان نفس فعله، تحدث عن بيتهم الكبير، الذى يحتضن الحاجين من كل صوب وحدب، يحدوهم الأمل فى الشفاء، حكى عن ثرى خليجى، قصد قريتهم للعلاج من الشيخ إمام، علاج ناله بمهارة يدين تعرف ما تفعل.
المنزل يظهر أخيراً، يلوح فى الأفق شخص يرتدى جلباباً بنياً، ويكاد وجهه يختفى خلف اللحية الكثيفة، والنظارة الطبية، ريبته تطل من عينيه، وأكدها حديثه حين سأل عن أصل المعرفة بالحاج إمام، والرقم الذى هاتفه بالتحديد، أصر على فحص الهاتف الذى تلفنه فى الصباح، ورؤية رقم الحاج إمام على قائمة المكالمات الصادرة، وعندما شاهد بنفسه ذلك، اطمئن قلبه قائلاً: «طيب تمام، هو عموماً الحاج إمام فى الطريق جاى دلوقتى».

بيت يتسم بالطابع الريفى، على حصيرة مهترئة كان الجلوس فى مكان واسع، بعد 5 دقائق خرج الحاج إمام، متلفحاً بجلباب بسيط، يفرق وجهه شارب أبيض كث، وتتحرك عيناه، خلف عوينات طبية سميكة، يمسك فى يديهه سيجارة، بدأ يسأل عن العلة التى أتت بالضيوف الكرام إلى المكان، فكان الجواب أن ثمة حادثة وقعت نتيجة ركوب المريض دراجة بخارية خلف صديق، وفى الطريق للقناطر الخيرية، وقع الاصطدام بشجرة ضخمة، لم يتبين وجودها، وكان ذلك منذ عدة أشهر، ووضعت فى حضرته الإشاعات، والروشتات الخاصة بالحالة، التى جهزت من قبل، أخذها الحاج إمام، ونظر إليها فى إمعان طبيب مختص يعلم كيف يتصرف فيها، وغابت عنه حقيقة، أنه لا يوجد أية آلام فى الكتف، ولم تحدث أى حادثة على الإطلاق، على الرغم من أن كافة التقارير، والإشاعات الموجودة أمامه تثبت أن هناك شروخاً فى الكتف الأيسر، لحادثة حدثت بالفعل لأحد الأشخاص أدت إلى إصابة فى كتفه الأيسر، ذهب الرجل لمدة تزيد على 5 دقائق ثم عاد مرة أخرى، ليطلب خلع التعليقة الموضوعة على الكتف.
عاد مرة أخرى ليسأل، عن الألم الموجود فكانت الإجابة، إنه بعد إصابة الكتف وعمل الاشاعات اللازمة والذهاب إلى 2 من الأطباء، لم يسفر ذلك عن تحسن يذكر، حيث عاد الألم شديداً مرة أخرى، ضحك، ثم سخر قائلاً: «لا متقلقش من حاجة، أنا حظبطلك الدنيا، أنا المظبطاطى»، طلب رفع الذراع إلى أعلى، حك أسفل ذقنه، فكر قليلاً، ثم تحدث عن كون الذراع تظهر فى حالة سليمة، لكن الجواب كان أن الألم لا يأتى بشكل دائم ولكن من وقت لآخر.
زعق الرجل على ولد جاء له بحلة نحاسية صغيرة، وقطن طبى وعلبة حقن وإبرة، كى يبدأ فى خطوات علاجه التى تتكرر مع المئات، ممن يلهثون خلف حلم العلاج، بدأ علاجه بقراءة الفاتحة، ثم الصلاة على النبى، سحب بيده مقياساً للحرارة، وطلب وضعه فى الفم، ثم تركه لمدة دقيقة ونصف، سرد خلالها إحدى بطولاته، متحدثاً عن شاب أتى إليه فى حادثة مشابهة له، لكن الحادثة أفضت إلى تجمع دموى على المخ، نتج عنه شلل فى قدميه وذراعيه، لكن بعد إتمام مراحل العلاج، زاره مرة أخرى برفقة حالة أخرى يطلب علاجها، وكان قد برأ تماماً، وعاد لمزاولة حياته بشكل طبيعى، يرى أن يديه تُلف فى حرير.
أحضر رباطاً سميكاً، وربط الذراع اليسرى، ثم وضع إبرة فى الذراع نفسها، تحديداً مكان الوريد، وهيأ الحلة الصغيرة التى جلبها تحت الذراع، حتى بدأ الدم فى التقاطر فى ذلك الوعاء النحاسى، وظلت تلك العملية لأكثر من دقيقة، بعدها انتزع الإبرة من الذراع، لم يكن الرجل يرتدى أى جوانتى طبى فى يده، ولم يقدم على مسح يديه، وتعقيم الأدوات التى يمارس بها مهامه مجهولة النسب، مسح الدم الموجود على الذراع، ثم طالب بضم الذراع، وأحضر كوباً من الليمون المسكر، وحين لمح أمارات القلق تلوح فى الأفق، قال فاغراً فاه عن ابتسامة واثقة: «متقلقش من حاجة خالص، أنت حتبقى كويس».
بعد ذلك أحضر حقنة لا يعرف لها نوعاً، ثم سحب الماء الموجود داخل الأنبول، وطلب الاستدارة، لأن الحقنة هذه المرة فى منطقة العضل، تصاعدت وتيرة القلق «هى ناقصة شكشكة يا حاج إمام؟»، كان رده: «أنت خايف من الحقنة، أمال أنا حكتب لك فى الروشتة حقن إزاى». جاء الرد: «الأزمة لا تكمن فى الحقن، طالما أن الألم سينزوى بعيداً، وتجعل الذراع تتحرك فى ليونة، والمريض يستطيع النوم براحة دون أن يخشى تقلباً على جنبه».
تحدث الحاج إمام عن الحادثة التى وقعت له بسيارته عندما سقط من أعلى أحد الكبارى، وهو عائد إلى منزله، بعد ذلك قطع كلامه طالباً خلع التيشيرت بالكامل، أحضر بعدها نصف شفرة موس حلاقة أخرجه من ورقة صغيرة، وطفق يرتل بعض الأدعية وهو يشرط بالموس فى الكتف، غير آبه بذعر يطل من العيون، كان الألم بالغ الشدة، حيث لم يلق بالاً إلى مخدر يكتم الألم، ثم أحضر كوبين من البلاستيك، يظهر عليهما سوء النظافة، أحرق عوداً من الكبريت داخل الكوب، ثم وضعه مكتوماً على الكتف من الأمام، صنع الفعل ذاته فى الكوب الثانى، ثم ثبته خلف الكتف، ووضع فوطة صغيرة عليهما لدقائق معدودة، ازداد خلالها الألم بشكل أكبر، حيث الجرح يشتد بفعل الحرق والنيران، لدقائق قليلة، أثناء ذلك ظل يحكى عن الرجل الذى اتصل به وهو مصرى يقيم فى إيطاليا، ليعالج ابنه بعدما انقطع الحبل الشوكى له، وأنه لم يستطع معالجته، وأنه لو كان يستطيع علاج ابنه لكان ذهب خصيصاً إلى إيطاليا لعلاجه، يتباهى بأنه يأتى إليه من كل مكان عدد كبير من المرضى، وأن ربنا كتب الشفاء على يديه لكل من قصد بابه.
عاد مرة أخرى إلى الكتف الذى قام بتشريطه بقطعة «موس الحلاقة»، الدماء تجمعت داخل الكوب البلاستيك، فأزالها من على الكتف وظل يزيل الدم المتراكم، ثم وضع قطعة من القطن على المكان الذى خرج منه الدم، ووضع عليها لاصقاً طبياً، قائلاً: «أنت لازم تستريح وتاخد العلاج إللى أنا هكتبهولك»، فأحضر ورقة كتب عليها باللغة العربية «علبة حقن فولتارين»، وبخط يكاد لا تظهر حروفه، كتب أنواعاً من الكبسول، وختم وصفته، بمنع تام من أكل جميع أنواع الفواكه، وتحذير شديد من أكل السبانخ والطماطم، مؤكداً على تناول جرعات كثيرة من المياه، وضرورة تنفيذ كل ما قاله، على أن يكون إعادة الكشف بعدها بأسبوعين، حتى يعرف نتيجة العلاج، بعد ملاطفته تعليقاً على وصفته «إزاى تمنع الفاكهة، الواحد ميقدرش يبطل أكل مانجا يومين». حدق المريض بنظرة شديدة اللهجة «أنت لازم تمشى على العلاج دا عشان تخف، وكتفك يبقى كويس، وإلا أنت حر، ومتلومش إلا نفسك لو فضلت مريض». وبسؤاله عن المبلغ الذى يريده جراء الجلسة الأولى للعلاج، أجاب أنه يأخذ 150 جنيهاً عن المرة الأولى، و100 عن إعادة الكشف، «التوك توك» يعيد مشهد القدوم منعكساً، مخلفاً وراءه حاجاً يداعب أحلام البسطاء والأثرياء فى علاج مزعوم، يدفع آلام من لا يستطيعون فعل ذلك.

hglw]v : hg,'k 

0 التعليقات:

إرسال تعليق